كما هو معلوم أنَّ الحداثة ظهرت في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر على يد الفرنسي بودلير صاحب ديوان (أزهار الشر)، والشاعر الأمريكي توماس ستيرنز إليوت في قصيدته (الأرض اليباب)، وتعدُّ الرومانسية هي بداية الحداثة، ومن شعرائها البريطانيين بايرون وشيلي وكيتس، والشاعر الألماني شيلر، ثم تطورت الحداثة في المدرسة الواقعية ثم الرمزية، وكانت الغاية من الحداثة الخروج من مأساة الإنسان والدمار التي كانت شائعة في ثقافة أوربا. وهذا لا يعني أنَّ الحداثة غربية الأصل؛ لأنَّ من سماتها غربية الجذور والأصول، وهي مضاهاة للحداثة الغربية، ودراسة الإسلام من خلال مصادر الغرب، وكونها مشروع ايديولوجي اقصائي، وابتعادها عن عالم الغيب وفرض النط الغربي، والخداع والمراوغة والتلاعب بالألفاظ وإنما هي عربية الأصول والجذور فهي تعني الإتيان بشيء جديد عن القصيدة السائدة سواء في شكل القصيدة أم في مضمونها، وهذا ما نجده في بيت أمرئ القيس مثلاً: [الطويل]
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ *بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
فتجد الشاعر يبتعد عن مألوف الحياة البدوية وهي الترحل، وذكر هنا الوقوف، ومنه قوله أيضا:
وَلَيلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخى سُدولَهُ *عَلَيَّ بِأَنواعِ الهُمومِ لِيَبتَلي
فتجد هنا الشاعر ذكر وصف البحر وابتعد عن ذكر الصحراء، وهكذا فكلُ شيء جديد يعدُّ حداثة، وبما أنْ جاء الإسلام تغير نظام القصيدة من الوقوف على الطلل إلى ذكر الدعوة للإسلام بكافة أشكالها، ثم تغير مضمون القصيدة في العصر الأموي في ذكر شعر النقائض، والشعر السياسي، أمَّا في العصر العباسي فقد تغير مضمون القصيدة إلى الخروج عن نظام القصيدة العربية السائدة وهذا ما فعله الشاعر أبو نواس في خمرياته وذكر الرياض زيادة عن شيوع عصر الثقافة والفلسفة آنذاك، وفي الشعر الأندلسي ظهر شعر الموشحات والزجل ورثاء المماليك مع اختيار ألفاظ سهلة والتمسك باللغة العربية الفصحى بعيداً عن الألفاظ الهندية والفارسية آنذاك، وفي العصر العثماني ظهرت أغراض في الشعر وهي المدائح النبوية وشعر الزهد والحماسة والدعوة إلى الجهاد.
امَّا في العصر الحديث فقد تطور نظام القصيدة العربية وهو الخروج عن الوزن والقافية وهذا ما نجده في الشعر المرسل، وشعر المقطعات، والشعر الحر (التفعيلة)، وقصيدة النشر، ومن أبرز الشعراء نزار قباني وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وخليل مطران وهو رائد المدرسة الجديد زيادة عن شعر عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني.
والحداثة الأصولية هو الاتيان بفكرة أو موضوع أو نمط جديد مع التمسك بأصول القصيدة العربية من حيث اللفظ والمعنى وايصال الفكرة، فمثلاً تجد قصيدة (رسالة جندي من جبة السويس) لنزار قباني، وكذلك قصيدة (هجم التتار) لصلاح عبد الصبور مقبولة، بينما تجد قصيدة أدونيس (أسير في الدرب التي توصل الله) مرفوضة. فكل مضمون خرج عن عادات المجتمع الرصينة، ودعا إلى الفوضى، والألفاظ المبتذلة والهزيلة مرفوض، كذلك قالب القصيدة فكلُّ نظام خرج عن الوزن والعاطفة يعد مرفوضا أيضا ما لم يأت بأصول وقواعد لهذا الفن، والأغراض التي تتناسب معه.
ولم ينته الحال إلى هذا الأمر بل ظهر ما بعد الحداثة في سبعينيات القرن التاسع عشر، ورائده نيتشه بموت الاله الإنسان المقدس وهي ديناميكية وفلسفة جديدة، ولم تدعو إلى نمط شعري جديد ذي أصول رصينة وإنما فوضى في الدين والعقل، إنما ما بعد الحداثة يكون بمعالجة القضايا في المضمون والشكل، والتي أخفقت مدارس الحداثة فيها عن طريق تأسيس قواعد وقوالب رصينة، ومعان جديدة ذات قيمة وإبداعية. ويستطيع شعراء العرب المعاصرين من خلال الاطلاع على التراث العربي الاتيان بكثير من الأشكال والمضامين الأصولية وذات طرائق منهجية محكمة بدلاً من السير وراء الفوضى في اختيار اللفظ والشكل، ولهذا تجد أنَّ الشعراء والنقاد الغرب يتذوقون الشعر العربي القديم أكثر من الشعر الحديث والمعاصر؛ لأنّهم يرون في الشعر الحديث والمعاصر صناعتهم، علماً أنَّ الساحة العربية أخرجت لنا كثيراً من الشعراء المتميزين أمثال أحمد شوقي والجواهري وغيرهم الكثير. (ينظر: سمات الحداثة العربية د. محمود بن أحمد، والحداثة في الشعر العربي المعاصر – أ. مها دحام، والحداثة وما بعد الحداثة وأين نحن منها؟ أ. طالب الدغيم، والحداثة والإيقاع في القصيدة العربية المعاصرة/ موقع المدينة، والحداثة في الشعر الجاهلي د. طامي الشمراني، ومظاهر التجديد في الشعر الأندلسي / المرسال، وتطور الشعر العربي في العصر العثماني د. محمد شهاب الدين، وحداثة الشعر العربي د. عبد الباسط بدر).